شبه حال إمام الحرمين بحال أبيه في الرجوع عن التأويل
يقول الشيخ الألباني : "وما أشبه حاله بحال أبيه العلامة أبي محمد عبد الله بن يوسف الجويني، فقد كان برهةً من الدهر متحيراً في هذه المسألة (الاستواء) وسواها من مسائل الصفات بسبب تأثره بعلم الكلام الذي تلقاه عن شيوخه، ثم استقر أمره -والحمد لله- على العقيدة السلفية فيها؛ كما شرح ذلك هو نفسه أحسن الشرح في رسالته القيمة في إثبات الاستواء والفوقية، وهي مطبوعة في المجلد الأول من مجموعة الرسائل المنيرية "، وهي رسالة صغيرة لطيفة قيمة بعنوان: النصيحة في صفات الله عز وجل .
يقول الشيخ الألباني رحمه الله: "وإني لأستغرب كيف فات ذكر هذا الإمام على الحافظ الذهبي رحمه الله -فهو لم يذكر الجويني الأب أبا محمد - في جملة هؤلاء الأئمة الأعلام الذين قالوا بقول السلف في هذه المسألة الهامة، ولكن جلَّ من لا ينسى".
يقول الألباني رحمه الله: "قلت: ومن شعر أبي المعالي رحمه الله:
نهاية إقدام العقول عقال وغاية آراء الرجال ضلال
وأرواحنا في وحشة من جسومنا وغاية دنيانا أذىً ووبال
ومن قوله: قرأت خمسين ألفاً في خمسين ألفاً" لقد خاض في علم الكلام وقرأ كتب الفلاسفة، وبعد هذا كله لم يستفد من ذلك سوى قيل وقال، وبهذا يتبين لنا خطأ من يقول: دعوا الناس يقرءوا أي شيء، فهو مثل من يقول: دعوا الناس يأكلوا أي شيء، فهل يقول هذا عاقل فضلاً عن أن يرضى به؟!
يقول: "وركبت البحر الخضم -أي خاض في كل شيء- وغصت في الذي نهى أهل الإسلام عنه" قال الألباني : "قلت: كأنه يعني علم الكلام" ثم قال إمام الحرمين : "كل ذلك في طلب الحق وأمن التقليد" حسب زعمه، فقرأ كلام أرسطو فلم يناسبه، ثم قرأ كلام أفلاطون فلم ير فيه فائدة، وقرأ في كتب الباطنية وتشعب، ثم انتقل إلى ابن سينا وإلى فلان وعلان، ثم رجع إلى كلام المعتزلة، فوجد المعتزلة فرقتين: فرقة بغدادية، وفرقة بصرية، فقرأ في كلامهم، فوجد كل واحد منهم يكفر الآخر؛ ففي أهل البصرة: العلاف يكفر النظام، والنظام يكفر العلاف !! وقد قرأ هذا كله لكي يأمن التقليد، وحتى لا يموت وهو مقلد، مع أن هذا -كما سبق- ليس تقليداً، وإنما هو اتباع الفطرة، وفي الأخير يتمنى أن يموت على عقيدة عجائز نيسابور واللاتي ما قرأن ولا سمعن قط بـأرسطو ولا أفلاطون ولا ابن سينا ولا علم الكلام ولا المعتزلة ولا الفلاسفة، ولا شيء من ذلك الغثاء، فعقيدة تلك العجائز أسلم وأفضل من عقيدة من قرأ خمسين ألفاً في خمسين ألفاً.
وكان من آخر ما قاله أبو المعالي : "عليكم بدين العجائز؛ فإن لم يدركني الحق بلطفه، وأموت على دين العجائز، وتختم عاقبة أمري على الحق وكلمة الإخلاص، وإلا فالويل لـابن الجويني "، لقد استيقظ الإمام وأخذ يخاف من سوء الخاتمة، وأن يموت وهو في هذه الحيرة والتخبط والضلال الفكري.. نسأل الله العفو والعافية.
وفي زماننا هذا نجد الذين ينتحرون نتيجة للتخبط الفكري؛ ولأنهم لم يجدوا ما يوقنون به ويعتقدونه، فتجد أحدهم يقتل نفسه لأنه ما وجد الحق ولا عرفه، ولا عرف الجواب لسؤاله: لماذا أعيش في هذه الحياة؟ فلذلك فضل أن يموت وينتحر.
فهذا الإمام استيقظ ضميره، فظل يدعو الله تعالى ويرجوه أن يميته على دين العجائز فقط، فرحلة العمر هذه كلها كانت خسارة، ولا يريد منها شيئاً إلا أن تمحى محواً كلياً، وأن يموت على الفطرة التي ولد عليها، وكأنه عجوز عاشت ثم ماتت على ما ولدت عليه، ولهذا يقال: الأمي هو الذي لا يزال على ما عليه ولدته أمه، ولم يتفقه أو يتعلم أي شيء، وهذه نتيجة الثقافة إذا كانت في غير الحق.